وكنـت يوما نصف فريق
علاقتي بالكرة والرياضة عموما لم تكن ودية .. أبدا لم نكن رفاقا ولاعلى وفاق رغم محاولاتي الفاشلة كل مرة، ويعود ذلك إلى ما علق بذهني وما خرجت به من حصيلة عن تجربة خضتها في أيام الدراسة بجميع مراحلها وعبر مختلف المدارس ومع مختلف الزملاء “صغار الصف” .
■ يرويها: علي الهلالي
كانت ساحة مدرسة أحمد قنابة الابتدائية بالمدينة القديمة هي الشاهد على تاريخ علاقتي غير الحسنة بكرة القدم إذ حبانا الله في تلك المرحلة بمعلم رياضة كان لا يقف ساكنا لحظة .. هرولة ومراوحة ونشاط جعلنا نتعب حين نراه ونجهد من مجرد الحديث عنه .. مخيف بقدر لطفه .. وفي ذلك اليوم الذي كانت تجري فيه مباريات فيما بين المراحل الدراسية بالمدرسة تخيرني من دون كل تلامذة فصول المرحلة الثالثة الابتدائية كي اقف حارسا لمرمى فريقنا، وكانت هي المرة الأولى التي ألعب فيها هذا الدور المحوري والخطير.
كنا نقول بأن الحارس هو نصف الفريق وهذا رتب علي مسؤوليات جسيمة وخطيرة إضافة إلى ان الفريق المقابل كان يضم في صفوفه ابطال جمباز أي انهم ذوو لياقة عالية ما جعلني اتحفز من لحظة استبدال الملابس في حجرة الرياضة واعيش الحدث قبل بدايته واتخيل الكرة قبل ان تكون موجودة.
كنا في تلك الفترة الزمنية نقلد بعض رياضيي المرحلة من “الدوس ساسي العجيلي” الذي كان “ولد شارعنا” أي احد شباب منطقتنا ونتفاخر به على الملأ إلى “نوري السري” الذي كنا نصرخ مشجعين له ولم نلفظ اسمه يوما مجردا بل كنا نقرنه بما وصف به ذاك الوقت وهو “السد العالي” و”دوزان السبعة وسبعين” الذي كان ظاهرة كروية اقرب إلى الطفرة ناهيك عن الحارس الاسطورة الذي كان يحمي المرمى الليبي من كرات الفرق المنافسة “الفيتوري رجب” وكنت في تلك اللحظات الفارقة وانا في الطريق للساحة استعدادا للمباراة اتخيل نفسي الحارس “محمد لاغا” رحمه الله.
تحمست وانا استمع للاهازيج التي يترنم بها مشجعونا وهم يملؤون السلم المؤدي لساحة المدرسة وتلك الجزئية المرتفعة من الساحة “صور ياصوار وعلق ياصحافة .. الصف الثالث فوق والرابع ديما لوطا” .. ارتفعت هامتي اكثر وانا اقف لأحمي المرمى بكل ما اوتيت من امكانيات واضمن بالتالي فوز فريقي الذي كان يمثل نخبة سنة ثالثة ابتدائي في مواجهة الصف الرابع الذين كانوا يروننا “فترش” وتوعدونا “بتشريك” الشبكة التي حملني المنتخب مسؤولية حمايتها وتحفزت ووقفت أمام التاريخ في تلك اللحظة منتصب القامة وانا ارتدي زيا رياضيا لم يسبق وان ارتديته.
اطلق مدرس الرياضة الذي كان هو الحكم صافرة البداية وكنت املأ مكاني واقف بثبات في منتصف “البورطة” التي كانت تواجه الشمس وبسبب اشعتها تلك الظهيرة لم أكن اتبين بدقة مجريات اللعب وإن كنت متيقنا من اننا سنفوز بحكم تفوق لاعبينا الذين كان منهم من يلعب الكرة حتى في منامه .. والدليل ان الكرة لم تقترب من منطقة الـ18 وهذا يدلل على قوة هجوم فريقنا الذي كان لاعبوه يتفوقون في لعب الكرة حفاة فما بالك حين يرتدون بوتيل “الديداس”.
وقفت مستعرضا في المرمى التي لم يقترب منها احد او يلوح في افقها منذ انطلاق المباراة مستريحا من عناء التقاط الكرة أو التصدي لتسديدة مفاجئة لم يدر بخلدي انني ساعيش اعنف مواجهة ذلك اليوم .. إذ وفي لحظة لم تخطر على البال “يشوط” احد مهاجمي الصف الرابع الكرة لتطير بسرعة اتصورها تجاوزت سرعة الصوت ولم انتبه إلا وهي في وجهي الذي سرعان ما انتفخ من كل جزء .. واسقط مغشيا علي .
ما نزفه أنفي من دماء بسبب تلك الضربة كاد ان يتسبب في موتي “حسب تخيلي” لأن كمية ما فقدته شراييني وأوردتي من سائل الحياة كان كبيرا.. وانتبهت لذلك بعد ان استفقت في عيادة المدرسة حيث كان الجميع متحلقا حولي والشاش والقطن و”التنتورة” هي الحاضر الأكبر وبيدي تلمست معالم وجهي التي انتفخت كلها وكأنني قد تعرضت لملايين اللكمات والرعب يعصف بأوصالي نتيجة وجود الشيخ “الخافي” مدير المدرسة والعم “المغربي” مشرف العيادة والاجواء لم تكن ودودة ابدا من حيث نبرة الخطاب الذي كان يتبادله الموجودون بعد تقييم حالتي مبدئيا .
عدت للبيت بشكلي الجديد لأتلقى عقابا آخر حيث اعتقد والدي “رحمه الله” انني كنت اتشاجر وماحصل لي هو نتيجة لمعركة خضتها مع احد التلاميذ حول “الالغاز” التي هي قصص المغامرين الخمسة التي كنا نتبادلها ونتخيل شخوصها.. ولم تفلح كل محاولاتي في اقناع اهلي بانني كنت العب الكرة وان ماحدث هو نتيجة طبيعية لخوض مباراة بهذا المستوى.
منذ ذلك اليوم الذي نلت فيه عقوبة مضاعفة بدأت بإعلان الكرة كراهيتها لي وما نلته من اهلي من “طريحة” بسبب الشكل الذي عدت من المدرسة عليه وحتى تاريخه لم اقترب من الكرة ولم احاول ان اصلح علاقتي بها لاتحول إلى مسار آخر وهو الفن والثقافة لاحظى بجلسات في محراب الثقافة بعيدا عن عصف الكرة بالوجوه. ومن خلال مسيرة عمر عبر مجال الصحافة والاعلام جمعتني الاقدار ايضا بمن استمر في المجال الكروي رغم ابتعادي عنه .. ويسجل نادي المدينة منعرجا في تلك العلاقة .. ووجدت ان الكرة والفن والثقافة هي مجالات لا يمكن لها ان تتنصل من بعضها .. فالفنان رياضي والرياضي فنان والمثقف هو بين هذه وتلك .. الرياضة هي السمو بالاخلاق والفن هو تجسيد لتلك المفاهيم الراقية والثقافة هي من يرسخها في مجتمع لايمكن ان يسير على قدم واحدة .