الملك «بيليه» يودع الدنيا
رحيل صانع أسطورة الرقم (10)
ما إن تلقوا الخبر الصاعق، حتى هرع البرازيليون إلى مستشفى «ألبرت أينشتاين» في ثاني أكبر مدن البلاد «ساو باولو»، لإلقاء النظرة الأخيرة على النجم الذي صنع ربيعهم الكروي، وألصق ببلدهم لقب «أرض اللعب الجميل» إلى الأبد.
من بين هؤلاء فتيان لم يتجاوزوا الـ20، وكثيرون لم يشاهدوا قط الأسطورة «بيليه»، لكن هذا الطوفان البشري الكبير يجزم على أن الراحل «أعظم لاعب كرة قدم في التاريخ» ولأجل ذلك يرون في الخميس الماضي يوم حداد وطني.
حداد وطني
تماهى ذلك مع الرؤية الرسمية، فسرعان ما أعلنت الحداد الوطني لمدة ثلاثة أيام، وتمت أضاءة معالم في ريو دي جانيرو باللونين الأصفر والأخضر، فيما تزين ملعب ماراكانا الشهير باللون الذهبي تكريمًا لـ»الأعظم في كل العصور».
وفي هذه الأثناء، تسابق الصحافيون من جميع أنحاء العالم على الوصول إلى مدينتي مدينتي ساو باولو وسانتوس وبلدة بيليه في الجنوب الشرقي «تريس كوراكويس»، حيث قام التلفزيون البرازيلي بتقديم تغطية شاملة لوفاته مع شهادات مؤثرة على المستوى الوطني تخللها لقطات أرشيفية مبهرة من أيام لعبه.
الصحافة العالمية تبكي الأسطورة
خيم الحزن على عالم كرة القدم، بمجرد أن وفدت أنباء من عائلة «بيليه” تفيد بوفاته، ووقف اللاعبون في شتى أنحاء الأرض دقيقة حداد عليه، فيما أفردت الصحف العالمية أغلفتها وصفحاتها للإسهاب في الحديث عن هذه الأسطورة.
ففي البرازيل الباكية ترحاً على أيقونتها الكروية الأبرز، نشرت صحيفة «أو غلوبو”صوراً لبيليه مرتديا قميص المنتخب البرازيلي أبرزها الصورة الأيقونية حيث يرفع ذراعه اليمنى محمولًا من زميله جايرزينيو، وكتبت «حداد على الملك الأبدي لكرة القدم»، أما “لوموند” الفرنسية فعنونت “وفاة الملك بيليه أسطورة الكرة العالمية”، وخصصت نظيرتها “ليكيب» 22 صفحة لإبراز كل محطات حياة الراحل تحت عنوان « «لقد كان ملكًا» وفي مقالة ذكرت أنه «أعطى معنى آخر للعبة الأكثر شعبية في العالم».
أما «بيلد” الألمانية فعمدت إلى المقارنة وقالت «بيليه كان أفضل من ميسي، مارادونا ورونالدو مجتمعين»، وكتبت «دي تسايت” : “ البرازيل تخسر ملكها .. بدأ حافي القدمين في شوارع باورو وأصبح رياضي القرن».
بدورها ، رأت «إل بايس” الإسبانية أن بيليه هو « كرة القدم العالمية في أربعة حروف”، وكتبت “لا ريبوبليكا” الإيطالية : “»وداعا أيها الملك»، وفاة بيليه .. كرة القدم تخسر أسطورتها”.
ولم تحد «الغارديان” البريطانية عن الاحتفاء بالنجم الراحل واعتبرت أنه «أول نجم عالمي لكرة القدم أعطى البسمة للجميع، ومراوغاته المجنونة لم تكن لتنتقص من قيمة منافسيه»، ورمت «أوليه» الأرجنتينية عباءة الخلاف الكروي بين البلدين وكتبت « كرة القدم تبكي وفاة بيليه».
نجوم الكرة ينعون «الملك”
كما تسابق نجوم اللعبة الحاليين والمعتزلين إلى إبداء حزنهم على وفاة بيليه، وسارعوا إلى إظهار تعازيهم إلى عائلته ومحبيه.
ومن هؤلاء النجم البرتغالي «كريستيانو رونالدو» الذي كتب: «كانت المودة التي أظهرها لي دائماً متبادلة في كل لحظة شاركناها، حتى من مسافة بعيدة، لن يُنسى أبداً وستعيش ذكراه إلى الأب”.
أما مواطنه نيمار، والذي صرح قبل أيام أن الراحل هو “الأعظم في عالم كرة القدم، فكتب : “قبل بيليه .. الرقم 10 كان مجرد رقم وكانت كرة القدم مجرد رياضة.. ثم تحولت إلى فن ومتعة .. لقد رحل، ولكن السحر يبقى إلى الأبد».
زميل نيمار في سان جيرمان وهداف النسخة الأخيرة من كأس العالم «الفرنسي كيليان مبابي” علق : «لقد تركنا ملك كرة القدم لكن إرثه لن يُنسى أبدًا».
أما الهداف النرويجي الشاب إيرلينغ هالاند، فيرى أن «ما يفعله أي لاعب .. فعله بيليه أولًا”.
نجم «السيلساو” الواعد رودريغو كتب : « يا له من حزن .. سيصبح 29 ديسمبر دائماً تاريخاً حزيناً».
ونشر كافو قائد المنتخب البرازيلي السابق على تويتر: « فقدت أخي، أعلم أنه بالموت يولد المرء للحياة الأبدية».
رحيل «بيليه”
وكان بيليه” قد فارق الدنيا يوم الخميس الماضي، وسارعت ابنته “كيلي ناسيمنتو” لتأكيد ذلك الخبر.
ويعد الراحل اللاعب الوحيد المتوّج بكأس العالم ثلاث مرات (1958 و1962 و1970)، وقد اختير أفضل رياضي في القرن الماضي من قبل اللجنة الأولمبية الدولية عام 1999، وبعدها بعام كأفضل لاعب في القرن عينه من قبل الاتحاد الدولي لكرة القدم «فيفا».
كما قدّم مجموعة لا تحصى من المهارات واللمحات التي جعلت منه أفضل تجسيد للعصر الذهبي لكرة القدم في بلاد «السامبا» في القرن العشرين.
سيرته الذاتية
ولد إدسون أرانتس دو ناسيمنتو في 23 أكتوبر 1940، وخاض مباراته الأولى مع فريق سانتوس عام 1956، عندما كان لا يزال في الخامسة عشر من العمر، ثم استدعي لـ»السيلساو» بعد عام، وسجّل هدفاً في أوّل مشاركة له في مباراة ضد الأرجنتين.
وضُمّ لتشكيلة المنتخب المشارك في كأس العالم 1958 في السويد، قبل بلوغه عامه الثامن عشر، وكانت مشاركته موضع نقاش حاد في البرازيل، حيث طرح نقاد علامات استفهام حول ما إذا كان هذا المراهق النحيل يحظى بالمواصفات البدنية المطلوبة للبطولة.
لم يكن «الجوهرة السوداء» متاحاً في المباراتين الأوليين لأنه كان لا يزال يتعافى من إصابة في الركبة ، لكن المدرب فيولا راهن على بيليه، ودفع به لاحقاً، ليقدم عرضاً مميزاً ارتكز بشكل أساسي على العمل مع «غارينشا»، أحد نجوم المنتخب يومها.
وفي النهائي أمام السويد المضيفة، لم يظهر اللاعب الشاب أي رهبة وسجّل هدفين ليساهم بنسج النجمة الأولى على القميص الأصفر بعد مباراة انتهت أيضا بفوز البرازيل بنتيجة 5-2، وأضحى أصغر لاعب يحرز لقب كأس العالم، وأصغر لاعب يسجّل في مباراتها النهائية.
وفي نسخة عام 1962 في تشيلي، مع خبرة أكثر وبنية أقوى، كان بيليه يمني نفسه بتكرار إنجازه وقيادة بلاده لانتصارات مبهرة، وقدّم لمحة عما كان يريد القيام به في المباراة الافتتاحية لبلاده ضد المكسيك بصنعه هدفاً وتسجيل آخر بعد أداء فردي مذهل راوغ خلاله أربعة لاعبين.
لكن آماله اصطدمت بحائط الإصابة في المباراة الثانية ضد تشيكوسلوفاكيا، ورغم ذلك فازت البرازيل باللقب.
ثم بعدها بـ4 سنوات، عانى خيبة أخرى، ففي مونديال إنجلترا 1966 حيث تم حرفيا «ركله» خارج البطولة، دون أن يحميه الحكام من الاحتكاكات القاسية، رغم أنه أصبح أول لاعب يسجّل في ثلاث نهائيات لكأس العالم، بعد هزّه الشباك في المباراة الأولى ضد بلغاريا.
العودة للمجد
فكر «بيليه» بالاعتزال إثر هذا الخروج، لكن لحسن الحظ، لم يفِ اللاعب بوعده، وعاد بعد أربع سنوات في مونديال المكسيك بعمر 30 عاما ليقود منتخباً يُعدّ من الأفضل على مرّ العصور.
وبمجرّد الانتهاء من بطولات كأس العالم، ساعد بيليه، الذي كان يلقب بـ «الملك»، في محاولة إطلاق ثورة كروية في الولايات المتحدة، حيث قاد كوزموس للقب الدوري المحلي عام 1977.
خارج الملعب
كما كان نجماً في الملاعب، تألق في السينما، وظهر في فيلم، إلى جانب الممثلين الأميركي سيلفستر ستالون والإنجليزي السير مايكل كاين، وحمل الفيلم الذي أنتج عام 1981 عنوان «»الهروب نحو النصر»و وروى قصة أسرى للحلفاء خلال الحرب العالمية الثانية.
ولاحقاً تحوّل بيليه بين العامين 1995 و1998، إلى وزير استثنائي للرياضة في بلاده، عدا عن قيامه بدور سفير للعديد من العلامات التجارية.
أو ميليسيمو»
تميّز «الملك الراحل»، بغزارة تسجيل الأهداف .. 1281 هدفاً في 1363 مباراة تحت ألوان نادي سانتوس (1956-1974)، المنتخب البرازيلي وكوزموس نيويورك الأميركي (1975-1977)، لكن بعيداً عن الأرقام، تبقى ذكرى بيليه خالدة كـ»ملك» أحدث ثورة في رياضته، مع رقم 10 الأبدي على ظهره.
لكن الهدف الأبرز في مسيرة «بيليه” كان ذاك الذي أطلق عليه “ أو ميليسيمو».
ففي 19 نوفمبر 1969، وفيما كان تركيز العالم منصباً على رحلة «أبولو 12» لهبوط الإنسان على القمر، عاش البرازيليون لحظة تاريخية غير مسبوقة، عندما نجح أسطورة كرة القدم بيليه بتسجيله هدفه الرقم ألف.
وكان هذا الهدف بمثابة هدية منحها نجم نادي سانتوس للجماهير المحلية الفخورة بأفضل لاعب وهدّاف عالمي، أما الوالدة ماريا سيليستي أرانتيس، فشاهدت ابنها الموهوب البالغ 29 عاماً يدخل تاريخ كرة القدم.
ولحسن حظ بيليه، كان ملعب «ماراكانا» مسرحاً لمواجهة سانتوس مع مضيفه فاسكو دي غاما يومها، وذلك قبل عام من إحراز بيليه لقب كأس العالم للمرة الثالثة مع منتخب بلاده في إنجاز غير مسبوق.
وقد وثّقت كاميرات التصوير باللونين الأسود والأبيض لحظة تاريخية أمام 80 ألف متفرج متحمّس، برغم أمطار لم تحرمهم الاستعداد لاحتفال مهيب.
وفيما دخل بيليه المرمى لإمساك الكرة من قلب الشباك، تهافت عشرات المصورين، الصحافيين والمشجعين مجتاحين العشب الأخضر للاحتفال مع بطلهم، الذي انتهى به الأمر محمولاً على الأكتاف والكرة دائماً بين يديه، وحاولت مجموعة ميكروفونات خطف أول ردّ فعل بعد إنجازه.
ثم استلم «بيليه” استلم قميصاً طُبع على ظهره الرقم 1000، ارتداه مستهلاً لفة شرفية دامت نحو ثلث ساعة، على وقع هتافات «ماراكانا» المتواصلة.